الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
الأخ السائل الكريم وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
نعم وضع الإسلام آدابا كثيرة تجب مراعاتها على الطبيب المسلم الذي يعالج مرضاه وإليك بعض هذه الآداب يذكرها الأستاذ الدكتور
عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة
يقول فضيلته: اهتم فقهاء الإسلام بآداب مزاولة مهنة الطب، فذكروا كثيرًا منها في كتبهم إدراكًا منهم لأهمية هذه المهنة، بحُسبانها وسيلةً لحفظ الصحة الموجودة وردِّ الصحة المفقودة وإزالةِ العلة أو تقليلها، ومن هؤلاء الفقهاء تاج الدين السبكيّ الشافعيّ، الذي ذكر بعض هذه الآداب فقال:
"من حقه بذلُ النصح والرفقُ بالمريض، وإذا رأى علامات الموت لم يُكرَه أن ينبِّه على الوصية بلطف من القول، وله النظرُ إلى العورة عند الحاجة بقدر الحاجة. وأكثرُ ما يُؤتَى الطبيب من عدم فهمه حقيقةَ المرض، واستعجالِه في ذكر ما يصفه، وعدم فهمه مِزاجَ المريض، وجلوسه لطب الناس قبل استكمال الأهلية. وعليه أن يعتقد أن طبَّه لا يردُّ قضاء ولا قدرًا، وأنه إنما يفعل ذلك امتثالاً لأمر الشرع، وأن الله ـ تعالى ـ أنزل الداء والدواء".
ومن الفقهاء أيضًا ابنُ الحاج المالكيّ، الذي عدَّد بعضًا من هذه الآداب فقال:
"أن يكون الطبيب خالص النية في عمله لله ـ تعالى ـ حتى يكون عمله من أعظم العبادات، لا يريد عليه عوضًا من الدنيا، وأن يكون قصدُه امتثالَ السنة المطهرة في التطبيب وكشف الكُرَب عن إخوانه المسلمين ومشاركتهم في مصائبهم والنوازل التي تنزل بهم، كما ينوي الشفقة عليهم. أما عند مباشرته لمريضه فيتعين عليه أن يُؤنِسَه ببشَاشَة وطلاقة وجه ويهوِّن عليه ما هو فيه من المرض اقتداءً بالسنة المطهرة، وينبغي أن يكون أمينًا على أسرار المرضى.
وينبغي أن يقعد مع الطبيب غيرُه ممن هو مباشر للمريض وعالم بحال مرضه، بشرط ألاّ يستحيَ المريض أن يذكر مرضه بحضرته. ومن آكَدِ ما على الطبيب حين جلوسه عند المريض أن يتأنَّى عليه بعد سؤاله حتى يخبره المريض بحاله، ويعيد عليه السؤال؛ لأن المريض ربما تعذر عليه الإخبار بحاله، لجهله به أو لتأثره بقوة ألمه. ويتعين على الطبيب إن كان لا يعرف المرض أو كان غير عارف بدوائه ألاّ يكتبَ شيئًا من الأدوية؛ لما في ذلك من إضاعة المال، وألاّ يقتصرَ على سؤال المريض وحده بل يسأل من يخدم المريض، إذ ربما عرف هذا عن المريض أكثَرَ مما يعرفه هو. وينبغي أن يعرف حال المريض في صحته، في مِزاجه ومَرْبَاه وإقليمه، وما اعتاده من الأطعمة والأدوية، سواء بالسؤال من المريض أو ممن يلُوذ به، وأن ينظر في حال المريض، فإن كان مَليًّا أعطاه من الأدوية ما يليق بحاله، وإن كان فقيرًا أعطاه ما تصل إليه قدرته، من غير كلفة ولا مشقة.
وينبغي للطبيب أن يكون الناس عنده على أصناف؛ فصنف يأخذ منه، وصنف لا يأخذ منه، وصنف إذا وصف لهم شيئًا من الأدوية أعطَى لهم ما ينفقونه فيه. فالصنف الأول: من له سعة في دنياه. والصنف الثاني: العلماء والصلحاء المستورون في حال دنياهم، فلا يأخذ منهم شيئًا إلا أن يكون محتاجًا. والصنف الثالث: الفقراء الذين لا يقدرون على كفايتهم في حال الصحة، فهؤلاء يعطيهم ثمن ما يصفه لهم إن كان في سعة".
إلى غير ذلك من الآداب التي ذكرها سائر الفقهاء غير هذين.
وأشيرُ إلى طرف من هذه الآداب بإيجاز:
1 ـ أن يحافظ الطبيب على السلوك السويّ لمهنته، وأن تكون حياته الخاصة والعامة بعيدة عن الشبهات، وهذا يتأتى بعدم المشاركة في الأنشطة التي لا تتفق وآدابَ مهنته. وأن يلتزم بالمبادئ العامة للأخلاق كما دعت إليها الشرائع السماوية، روى النعمان بن بشير أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام".
2 ـ أن يتخذ الطبيب لنفسه غايةً في ممارسته لمهنته، وهي واجب المحافظة على الحياة الإنسانية والدفاع عنها، وعلاج المرضى وتخفيف الألم، وذلك كله بقدر الاستطاعة، وأن يبذل جهده في تحقيق هذه الغاية، ولا ينبغي أن يكون دافعُه من ممارستها تحقيقَ المنفعة الشخصية أو الكسب الماديّ، قال تعالى: (الشيطانُ يَعِدُكم الفقرَ ويأمرُكم بالفحشاءِ واللهُ يَعِدُكم مغفرةً منه وفضلاً واللهُ واسعٌ عليمٌ).
3 ـ ألاّ يوجهَ الطبيب إمكاناته وخبراته للأذى أو التدمير، أو إلحاق الضرر البدنيّ أو النفسيّ بالإنسان؛ لنهي الشارع عن الضرر ومُضارّة المسلم، فقد رُوي عن أبي سعيد الخدريّ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام". ورُوي عن أبي صِرْمة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من ضارّ مسلمًا ضارّه الله".
4 ـ أن يعمل على تنمية خبرته في الطب؛ بالاطلاع على الأبحاث المتخصصة في مجال عمله، وحضور الندوات والمؤتمرات التي تُناقَش فيها الأعمال الطبية، والوقوف على ما قد يَرِدُ على النظريات المختلفة في التشخيص والعلاج من تعديل أو إضافة، وعلى الجديد في وسائل المداواة والمعالجة وغيرها من المجالات الطبية، إذ رغَّب الشارع في طلب العلم والتزود منه، من ذلك قوله تعالى: (وقل رَبِّ زِدْني علمًا) ورُوي عن أبي أمامة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، وإن الله عز وجل وملائكته وأهل السماوات والأَرَضِين، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت، لَيُصَلُّون على معلِّم الناسِ الخيرَ".
5 ـ للطبيب أن يقوم بإجراء البحوث العلمية في مجال تخصصه، على ألا تشتمل حريته في البحث العلميّ على قهر الإنسان، أو قتله، أو الإضرار به، أو تعريضه لضرر محتمَل، أو التدليس عليه، أو استغلال حاجته المادية. ولا ينبغي أن تشتمل خطوات البحث العلميّ أو تطبيقاته على أمر يُعَدّ من الكبائر التي حرمها الإسلام، كالزنا، أو اختلاط الأنساب أو التشويه والعبث بمقومات الشخصية الإنسانية عن طريق الهندسة الوراثية؛ لنهي الشارع عن ذلك.
6 ـ أن يُخلص الطبيب لمريضه إخلاصًا كاملاً، وأن يبذل له النصح، وأن يفيده إفادة تامة عن كل ما يتعلق بمرضه، فقد رُوي عن تميم الداريّ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الدين النصيحة" قلنا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتهم".
7 ـ أن يصارح الطبيب مريضه بعلته إن طلب ذلك، وأن يختار الطريقة المناسبة لمكاشفته بحقيقة مريضه، وَلْيَتَلَطَّفْ معه، وأن يعمل على إذكاء إيمان المريض وإنزال السكينة في نفسه، وتوثيق رباطه بالله ثقةً يهوِّن بها ما سواه، فقد رُوي عن الملك بن عُمير أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما زار أم العلاء الأنصارية، وهي تتوجع، قال لها: "أبشري أمَّ العلاء، فإن مرض المسلم يَحُطُّ الله به عنه خطاياه كما يَحُطُّ عن الشجرة أوراقها في الخريف" وفي رواية: "فإن مرض المسلم يُذهب الله به خطاياه كما تُذهب النار خَبَثَ الذهب والفضة".
8 ـ أن يُؤنس الطبيب مريضه ببَشَاشَته وطلاقة وجهه، فقد رُوي عن أبي ذرّ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تَحقِرَنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تَلقَى أخاك بوجه طَلْق". ورُوي عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إنكم لا تَسَعُون الناسَ بأموالكم، ولكن لِيَسَعْهم منكم بَسْطُ الوجه وحسنُ الخلق". وينبغي على الطبيب أن يهوِّن على المريض ما هو فيه من مرض، وإن رأى في مرضه ضررًا عليه تَلطَّفَ في إبعاده عنه، واعدًا إياه بذلك تطييبًا لنفسه، فقد رُوي عن أنس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا".
9 ـ أن يكون عمل الطبيب مجردًا عن العوامل النفسية التي قد تؤثِّر في أدائه، فليس له أن يفرِّق بين المرضى بحسب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو اللون، أو الفكر، أو نحو ذلك، فقد قال الحق سبحانه: (فلا تَتَّبِعوا الهوَى أن تَعْدِلوا وإن تَلْوُوا أو تُعرِضوا فإن اللهَ كان بما تعملون خبيرًا).
10 ـ أن يعالج الطبيب العدو كما يعالج الصديق، فليس له أن يغيِّر من طريقة علاجه مع أعدائه، قال تعالى: (ولا يَجْرِمَنَّكم شَنَآنٌ قومٍ على ألاّ تَعدِلوا اعدِلوا هو أقرَبُ للتقوى).
11 ـ أن يحافظ الطبيب على أسرار مريضه، سواء وصلت إليه عن طريق القول أو رآها الطبيب أو استنتجها من حالته، وأن يحيطها بسياج من الكتمان؛ لأن هذه الأسرار أمانة، وقد أوجبت الشريعة الإسلامية حِفْظَها على كل من اطَّلَع عليها، ونَهَته عن الخيانة فيها، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا اللهَ والرسولَ وتخونوا أماناتِكم) وقال سبحانه في وصف المؤمنين: (والذين هم لأماناتِهم وعهدِهم راعُون) فضلاً عما في إفشاء هذا السر من الاتِّصاف بصفة من صفات المنافقين، ولا يَخلُقُ بأحد أن يتَّصف بها.
12 ـ أن يجند الطبيب كل علمه وخبرته في أن يجتاز المريض ما بقيَ له من العمر في حسن رعاية، من غير ألم ولا عذاب، وذلك لقيام العلاقة بينهما على أساس العقد، وقد أمر الحق سبحانه بالوفاء بما ألزَمَ الإنسان نفسَه به بمقتضى العقد، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفُوا بالعقود).
13 ـ ألاّ يصف الطبيب دواء يقتل مريضه أو يضرّ به، أو دواء يُسقط الأجِنّة، أو يؤدي إلى العقم التام من غير ضرورة إليه، أو أن يفعل بالمريض ما يضرّ به؛ لنهي الشارع عن الإضرار بالغير أو التسبب إليه.
14 ـ أن يستشير الطبيب غيرَه من الأطباء الذين لهم خبرة بالمرض الذي يعالجه، إن كان يجهل كيفية تشخيصه أو طريقة معالجته، لقوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وعليه أن يتنحَّى عن معالجة المريض ويتركها لمن يكون أقدَرَ عليها من الأطباء إن كان لا يأنَس من نفسه القدرةَ على ذلك، فقد رُوي عن زيد بن أسلم أن رجلاً في زمن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصابه جرح، فاحتقن الدم، وأن الرجل دعا برجلَين من بني أنمار، فنظرا إليه، فزعم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لهما: "أيكما أطَبُّ؟" فقالا: أو في الطب خيرٌ يا رسول الله؟ فزعم زيد أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أنزل الدواءَ الذي أنزل الداءَ".
15 ـ ألاّ يُنهيَ الطبيب حياةَ مريض مأيوس من بُرئه متعذب من آلامه، بل ينبغي عليه أن يخفف من آلامه بقدر الاستطاعة حتى يأتي أجله المحتوم؛ لأن إنهاء الحياة قتل له بغير حق، وقد جاءت نصوص كثيرة تنهى عن ذلك، منها قوله سبحانه: (ولا تقتلوا النفسَ التي حرَّم اللهُ إلا بالحق) وما رُوي عن أبي هريرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "اجتَنِبوا السبعَ الموبِقات" قيل: وما هنَّ يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق...".
وهذه الآداب التي ذُكرت هي غَيض من فَيض امتلأت به صفحات كتب الفقهاء، وقد قامت أدلة الشرع على طلب التخلق بها ومراعاتها عند مزاولة مهنة الطب.
والله أعلم
أ.د. عبد الفتاح إدريس