ليست ملامح وجهه تلك التي رأيتها ، ليس ذلك محياه الذي كان يشع إيمانا راسخا بعقيدة الإسلام الحنيف ، نعم .. لقد اختلطت قسماته و تغيرت ، فأصبح هزيلا بعد أن رحلت عنه معاني الإيمان وكلماته
اليوم و بعد ثلاثة أعوام مرت جئت لكي أراه ، فوجدته شخصا آخر قد ارتدى ثيابه و اتخذ من اسمه لقبا . قبل أعوام كنا صديقين لا نفترق ، تربينا معا على عقيدة صادقة صالحة ، فأحببته بالله و أحبني ، رافقته من الدهر أياما ورافقني ، إلى أن جاءت تلك الساعات التي جعلت من أيام الدهر خناجراً تخترق القلوب ، نعم إنها ساعات الفراق الصعبة ، فرحلت عنه و أنا أحمل له في قلبي و عقلي صورة لن تُنس مهما مرّ عليها الدهر طُويت الأيام و الشهور و السنوات مع صفحات هذا الدهر في سفرٍ كبير ، لأجد نفسي و قد قضيت ثلاثة أعوام كاملات ٍ في غربة لعينة ... لاأدري كيف مرت ولكنها بدت لي كلحظات من كابوس مرّ علي ليترك في أعماقي جرحا لم يشفه سوى مشهد لذلك الوطن الحبيب
وأخيراً حان موعد العودة ، فوقفت في المطار لأستذكر لحظات من ذلك الماضي القريب في بلدي الذي طالما عشقته ... أستذكر ذلك الصديق الذي كان ينتظرني ، وحان موعد الإقلاع الذي كنت أنتظر ... ركبت ذلك الشيء الضخم الذي سيكون سبيلا للعودة ... نعم ركبت الطائرة مسرعا متلهفاً أريد أن أرى وطني .. أريد أن أرى صديقي والأهل والأحباب .. أريد أشياء كثيرة كانت تسبح في بحر مخيلتي و تحتل _ مذ أن جئت _ كل أفكاري وتمتلك عقلي وقلبي و صلت إلى ضالتي التي كنت أنشدها في الساعة الواحدة ظهرا ولكن سرعان ما تغيرت عقارب الساعة لتشير إلى الرابعة .. خرجت وتركت كل من اجتمعوا ليهنئونا بالعودة واتجهت مسرعاً إلى بيت " أحمد " فطرقت الباب في لهفة وعجلة .. فخرج يستقبلني مقبلا فرحاً .. و لكنني شعرت بشيء غريب يتسلل إلى نفسي ، و من حديثه الذي طال علمت بأن الدهر قد اختاره ليكون واحداً من أشقياء هذه الدنيا .. واحداً من أشقياء هذا العالم المقيت .. فشعرت بالحزن يشق في أعماقي جرحاً جديداً قاتلاً يصعب أن يوجد له دواء .. حاولت حينها بكلمات عديدة و مختلفةٍ أن أعيده إلى الطريق التي كان عليها يسير ، ولكنه لم يستجب لما قلت فأمهلته من الأيام ثلاثة ليرد إلي جوابه الذي كنت آمل أن يكون ما أريد ..
وعدت إلى البيت وفوق رأسي سحابة سوداء ، و استلقيت على سريري محاولا النوم رامياً كل همومي في سلة المهملات فدقت الساعة معلنة منتصف الليل ، حاولت النوم ثانية فإذ بنفسي تقول : ويحك يا هذا أتنام و قد فقدت من الأصدقاء أفضلهم و من الناس أقربهم إلى قلبك .. فشعرت ببضع قطرات من الدمع تنساب على وجنتي محاولة بدفئها أن تحارب ذلك البرد الذي كان يحاول احتلالي .. نعم لم أستطع النوم فعقلي وقلبي لم يكونا معي كانا مشغولين بأشياء كثيرة لم أعرفها ، كنت أتمنى لو لم أسافر .. كنت أتمنى لو لم أعد لأرى أي حال آلت إليه هذه الأمة التي ادعت الحضارة و التقدم ...
و بعد أن مرت تلك الأيام الثلاثة ذهبت إليه أسأله ما الذي رسي عليه من الأمر ، فلم أجده هناك ولكن أخاه أخبرني أنه قد خرج في رحلة مع أصدقائه و صديقاته .. وهناك و في تلك اللحظة عرفت ماهي الإجابة ، و لكنني لم أجعل لليأس إلى قلبي سبيلا ، فقسماته التي كانت تحمل مسحة من البراءة كانت تشجعني .. و وجهه الذي كان مسرحاً لصراع يحتدم في داخله محاولاً أن يدفن معاني الإيمان و الحق في الأعماق ليظهر للناس متحضراً كان دوماً يحفزني و يدفعني إلى المثابرة .. حاولت مرات و مرات ٍ فلم استطع .. وجدته قد أقفل قلبه قبل أن يقفل أذنيه ، مما جعلني أتركه و أنسى تلك السنوات التي قضيناه معاً كبرنا وكبر معنا الدهر و كذلك المصيبة ..
أنهيت دراستي و تخرجت من الجامعة بتفوق و بلغت من العمر السادسة والعشرين ، واخترت من النساء أكثرهن خلقاً و ديناً واتخذتها زوجة ، و عشنا معاً حياة سادتها محبة وطمأنينة ...
وفي يوم من أيام الصيف الحارة كنت أجلس مع عائلتي فإذ بالهاتف يرن ، فرفعت سماعته لأسمع صوت امرأة هزيل تبكي قائلة : أهذا بيت محمد ؟ ، أجبتها نعم ، فقالت : أنا زوج صديقك القديم أحمد ، وأنا أريد مساعدتك ، وهنا حاولت أن أظهر لها عدم المبالاة ، و لكنها عادت إلى التوسل قائلة : أرجوك أغثني فأنا بحاجة إليك ، صديقك أحمد قد صار مدمناً فأرجوك ساعدني .. و في تلك اللحظات شعرت بالغثيان يمزق أحشائي من الداخل فلم أستطع حتى أن أمسك السماعة بيدي ، فألقيتها بعيداً و خرجت إليها مسرعاً إلى أن وصلت إلى بيت أحمد لتخبرني عن حالها و حال زوجها الذي صار سيد أشقياء هذه الدنيا ، كانت البائسة المسكينة لاتراه إلا في أيام قليلة من هذا الشهر الطويل ، و أكملت حديثها قائلة : أن مرضاً خطيرا قد أصاب ابنها الأصغر فنقلته إلى المستشفى و هي لاتملك من المال شيئاً كي تدفعه أجرة و تكاليفاً له ، و طلبت مني أن أبحث عن أحمد علني أجده فيتصرف في الأمر ...
فخرجت من هناك و أمواج الغضب تحتل عيناي و قلبي و كل نفسي .. بحثت في كل مكان فلم أترك من الزقاق شيئاً إلا دخلته إلى أن وصلت إلى أحد البارات التي اعتاد أولئك البؤساء أمثال أحمد أن يدخلوها ، فوجدت مجموعة من الناس قد التفوا حول شيئاً ، فدفعني حب الاستطلاع أن أرى ما الأمر فذهبت نحوهم فإذ بأحمد قد خر صريعاً ميتاً على الأرض .. ألقيت بنفسي فوقه أقبله و أستسمحه .. شعرت بأن الدنيا بأسرها صارت ظلاما لا أرى منها سوى عينا أحمد تعاتباني .. أنا السبب لأنني تركته ولم أثابر على نصيحته ، فلم أستيقظ إلا و أنا على أحد أسرة المستشفى و قد مر عليّ يومان كاملان وأنا في غيبوبة خطيرة ..
و بعد أن خرجت ذهبت إلى زوجته التي كانت لا تعلم من حاله شيئاً فوجدت في عيناها شيئا من العتاب ، و سألتني : لماذا لم تعد به ؟ ، لم أستطع الإجابة و أنا أرى حولها أولئك الصغار الثلاثة المعذبين ، ولكن الحقيقة كانت أقوى من مخاوفي ، فنطقت بتلك الكلمات القاسية المؤلمة ، و لكنها حاولت أن تتمالك نفسها ولكن بلا جدوى فسقطت على الأرض لتخرُج آخر أنفاسها الطاهرة إلى هذا العالم المقيت الذي لا يستحق حتى الحياة .. و حولها أولئك الصغار الثلاثة تنساب منهم براءة حزينة ، جعلتني أشعر بسكرات الموت قبل أوانها ، فحملتهم معي أربيهم على ما تربيت عليـه ...